فصل: كلام نفيس عن الكفر ومعانيه:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.كلام نفيس عن الكفر ومعانيه:

قال البغوي: والكفر على أربعة أنحاء: كفر إنكار، وكفر جحود، وكفر عناد، وكفر نفاق، فكفر الإنكار هو أن يعرف الله أصلًا ولا يعترف به وكفر به.
وكفر الجحود هو أن يعرف الله بقلبه ولا يعترف بلسانه ككفر إبليس وكفر اليهود قال الله تعالى: {فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به} [البقرة: 89].
وكفر العناد هو: أن يعرف الله بقلبه ويعترف بلسانه ولا يدين به ككفر أبي طالب حيث قال:
ولقد علمت بأن دين محمد ** من خير أديان البرية دينًا

لولا الملامة أو حذار مسبة ** لوجدتني سمحًا بذالك مبينًا

وأما كفر النفاق: فهو: أن يقر باللسان ولا يعتقد بالقلب وجميع هذه الأنواع سواء في أنه من لقي الله تعالى بواحد منها لا يغفر له. اهـ.
وقال صاحب الميزان:
الكفر في كتاب الله على خمسة أوجه: كفر الجحود والجحود على وجهيين الكفر بترك ما أنزل الله وكفر البراءة وكفر النعم أما كفر الجحود فهو الجحود بالربوبية وهو قول من يقول: لا رب ولا جنة ولا نار.
وأما الوجه الآخر فهو الجحود على معرفة ومنه قوله: {فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين} [البقرة: 89].
الوجه الثالث: من الكفر: كفر النعم {ترك الشكر} ومنه قول الله تعالى حكاية عن سليمان عليه السلام: {هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم اكفر ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم} [النمل: 40] وقوله الله تعالى: {فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون} [البقرة: 152] وقوله: {لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد} [إبراهيم: 7].
والوجه الرابع من الكفر: ترك أمر الله عز وجل ومنه قوله: {وإذا أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم} إلى قوله: {أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض} [البقرة: 84، 85].
الوجه الخامس من الكفر: كفر البراءة ومنه قوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام: {كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدًا حتى تؤمنوا بالله وحده} الآية [الممتحنة: 4] ومنه قول الله تعالى حكاية عن إبليس- عليه لعنة الله- لأهل النار: {إنى كفرت بما أشركتمون من قبل} [إبراهيم: 22].
وقوله الله تعالى: {ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضًا} [العنكبوت: 25] يعني يتبرأ بعضكم من بعض. اهـ.
وذكر الإمام العلامة الفخر الرازي- رحمه الله- في تفسيره هذه القصة قال: ويحكي أن الإمام أبا القاسم الأنصاري سئل عن تكفير المعتزلة في هذه المسألة فقال لا لأنهم نزهوه فسئل عن أهل السنة فقال لا لأنهم عظموه والمعني أن كلا الفريقين ما طلب إلا إثبات جلال الله وعل وكبريائه إلا أن أهل السنة وقع نظرهم على العظمة فقالوا ينبغي أن يكون هو الموجد ولا موجود سواه والمعتزلة وقع نظرهم على الحكمة فقالوا لا يليق بجلال حضرته هذه القبائح. اهـ.
وقال القاضى عياض في هذا الشأن بعد كلام مطول ما نصه: وقال غيرهما أب والمعالى وأبو محمد عبد الحق من المحققين: الذي يجب الاحتراز عن التكفير في أهل التأويل فإن استبحاة الموحدين خطأ والخطأ في ترك ألف كافر أهون من الخطأ في سفك محجمة من دم مسلم واحد.
وقد قال صلى الله عليه وسلم: «فإذا قالوها- يعني الشهادة- عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله».
فالعصمة مقطوع بها من الشهادة ولا ترتفع ويستباح خلافها إلا بقاطع ولا قاطع من شرع ولا قياس عليه. اهـ.
فائدة: في ما يوجب الكفر وما لا يوجبه:
أخبرنا عبد الرزاق عن معمر عمن سمع الحسن قال لما قتل علي رضي الله عنه الحرورية قالوا من هؤلاء يا أمير المؤمنين أكفار هم؟ قال: من الكفر فروا قيل فمنافقين قال: إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلا وهؤلاء يذكرون الله كثيرا قيل فما هم؟ قال: قوم أصابتهم فتنة فعموا فيها أو صموا أخرجه عبد الرزاق.
وقال شيخ الإسلام- رحمه الله- في مجموع الفتاوى ما نصه: قالوا فمن ثم قلنا إن ترك التصديق بالله كفر وإن ترك الفرائض مع تصديق الله أنه قد أوجبها كفر ليس بكفر بالله إنما هو كفر من جهة ترك الحق كما يقول القائل كفرتنى حقى ونعمتى يريد ضيعت حقى وضيعت شكر نعمتى قالوا ولنا في هذا قدوة بمن روى عنهم من أصحاب رسول الله والتابعين إذ جعلوا للكفر فروعا دون أصله لا ينقل صاحبه عن ملة الإسلام كما أثبتوا للإيمان من جهة العمل فروعا للأصل لا ينقل تركه عن ملة الإسلام من ذلك قول ابن عباس في قوله: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} قال محمد بن نصر حدثنا ابن يحيى حدثنا سفيان ابن عيينة عن هشام يعنى ابن عروة عن حجير عن طاووس عن ابن عباس {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} ليس بالكفر الذي يذهبون إليه حدثنا محمد بن يحيى ومحمد بن رافع حدثنا عبدالرزاق أنبأنا معمر عن ابن طاووس عن أبيه قال سئل ابن عباس عن قوله: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} قال هي به كفر قال ابن طاووس وليس كمن كفر بالله وملائكته وكتبه ورسله.
حدثنا إسحاق أنبأنا وكيع عن سفيان عن معمر عن ابن طاووس عن أبيه عن ابن عباس قال هو به كفر وليس كمن كفر بالله وملائكته وكتبه ورسله وبه أنبأنا وكيع عن سفيان عن معمر عن ابن طاووس عن أبيه قال قلت لابن عباس {ومن لم يحكم بما أنزل الله} فهو كافر قال هو به كفر وليس كمن كفر بالله واليوم الآخر وملائكته وكتبه ورسله.
حدثنا محمد بن يحيى حدثنا عبدالرزاق عن سفيان عن رجل عن طاووس عن ابن عباس قال كفر لا ينقل عن الملة.
حدثنا إسحاق انبأنا وكيع عن سفيان عن سعيد المكى عن طاووس قال ليس بكفر ينقل عن الملة.
حدثنا إسحاق أنبأنا وكيع عن سفيان عن ابن جريج عن عطاء قال كفر دون كفر وظلم دون ظلم وفسق دون فسق.
قال محمد بن نصر قالوا وقد صدق عطاء قد يسمى الكافر ظالما ويسمى العاصى من المسلمين ظالما فظلم ينقل عن ملة الإسلام وظلم لا ينقل قال الله تعالى: {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم} وقال: {إن الشرك لظلم عظيم} وذكر حديث ابن مسعود المتفق عليه قال لما نزلت {الذين آمنوا ولم يلبسوا ايمانهم بظلم} شق ذلك على أصحاب النبي وقالوا أينا لم يظلم نفسه قال رسول الله ليس بذلك ألم تسمعوا إلى قول العبد الصالح {إن الشرك لظلم عظيم} إنما هو الشرك حدثنا محمد بن يحيى حدثنا الحجاج بن المنهال عن حماد بن سلمة عن على بن زيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس أن عمر بن الخطاب كان إذا دخل بيته نشر المصحف فقرأ فيه فدخل ذات يوم فقرأ فأتى على هذه الآية: {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم} إلى آخر الآية فانتعل وأخذ رداءه ثم أتى إلى أبى بن كعب فقال يا أبا المنذر أتيت قبل على هذه الآية: {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم} وقد نرى أنا نظلم ونفعل فقال يا أمير المؤمنين إن هذا ليس بذلك يقول الله: {إن الشرك لظلم عظيم} إنما ذلك الشرك.
قال محمد بن نصر وكذلك الفسق فسقان: فسق ينقل عن الملة وفسق لا ينقل عن الملة فيسمى الكافر فاسقا والفاسق من المسلمين فاسقا ذكر الله إبليس فقال: {ففسق عن أمر ربه} وكان ذلك الفسق منه كفرا وقال الله تعالى: {وأما الذين فسقوا فمأواهم النار} يريد الكفار دل على ذلك قوله: {كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها وقيل لهم ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون} وسمى الفاسق من المسلمين فاسقا ولم يخرجه من الإسلام قال الله تعالى: {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون} وقال تعالى: {فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج} فقال العلماء في تفسير الفسوق هاهنا هي المعاصى قالوا فلما كان الظلم ظلمين والفسق فسقين كذلك الكفر كفران:
أحدهما ينقل عن الملة والآخر لا ينقل عن الملة وكذلك الشرك شركان شرك في التوحيد ينقل عن الملة وشرك في العمل لا ينقل عن الملة وهو الرياء قال تعالى: {فمن كان يرج ولقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا} يريد بذلك المراءاة بالأعمال الصالحة وقال النبي: «الطيرة شرك».
قال محمد بن نصر فهذان مذهبان هما في الجملة محكيان عن أحمد بن حنبل في موافقيه من أصحاب الحديث حكى الشالنجى إسماعيل بن سعيد أنه سأل أحمد بن حنبل عن المصر على الكبائر يطلبها بجهده إلا أنه لم يترك الصلاة والزكاة والصيام هل يكون مصرا من كانت هذه حاله قال هو مصر مثل قوله: «لا يزنى الزانى حين يزنى وهو مؤمن» يخرج من الإيمان ويقع في الإسلام ومن نحو قوله: «لا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن» ومن نحو قول ابن عباس في قوله: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} فقلت له ما هذا الكفر فقال كفر لا ينقل عن الملة مثل الإيمان بعضه دون بعض وكذلك الكفر حتى يجئ من ذلك أمر لا يختلف فيه وقال ابن أبى شيبة «لا يزنى الزانى حين يزنى وهو مؤمن» لا يكون مستكمل الإيمأن يكون ناقصا من إيمانه قال وسألت أحمد بن حنبل عن الإسلام والإيمان فقال الإيمان قول وعمل والإسلام إقرار قال وبه قال أبو خيثمة وقال ابن أبى شيبة لا يكون الإسلام إلا بإيمان ولا إيمان إلا بإسلام قلت وقد تقدم تمام الكلام بتلازمهما وإن كان مسمى أحدهما ليس هو مسمى الآخر وقد حكى غير واحد إجماع أهل السنة والحديث على أن الإيمان قول وعمل قال أبو عمر بن عبد البر في التمهيد أجمع أهل الفقه والحديث على أن الإيمان قول وعمل ولا عمل إلا بنية والإيمان عندهم يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية والطاعات كلها عندهم إيمان إلا ما ذكر عن أبى حنيفة وأصحابه فإنهم ذهبوا إلى أن الطاعة لا تسمى إيمانا قالوا إنما الإيمان التصديق والإقرار ومنهم من زاد المعرفة وذكر ما احتجوا به إلى أن قال: وأما سائر الفقهاء من أهل الرأى والآثار بالحجاز والعراق والشام ومصر منهم مالك بن أنس والليث بن سعد وسفيان الثورى والأوزاعى والشافعى وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبو عبيد القاسم بن سلام وداود بن على والطبرى ومن سلك سبيلهم فقالوا الإيمان قول وعمل قول باللسان وهو الإقرار واعتقاد بالقلب وعمل بالجوارح مع الإخلاص بالنية الصادقة قالوا وكل ما يطاع الله عز وجل به من فريضة ونافلة فهو من الإيمان والإيمان يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصى وأهل الذنوب عندهم مؤمنون غير مستكملى الإيمان من أجل ذنوبهم وإنما صاروا ناقصى الإيمان بارتكابهم الكبائر ألا ترى إلى قول النبي: «لا يزنى الزانى حين يزنى وهو مؤمن» الحديث يريد مستكمل الإيمان ولم يرد به نفى جميع الإيمان عن فاعل ذلك بدليل الإجماع على توريث الزانى والسارق وشارب الخمر إذا صلوا إلى القبلة وانتحلوا دعوة الإسلام من قراباتهم المؤمنين الذين ليسوا بتلك الأحوال. اهـ.
وقال ابن القيم- رحمه الله- في إعلام الموقعين ما نصه: والله سبحانه وتعالى رفع المؤاخذة عن المتكلم بكلمة الكفر مكرها لما لم يقصد معناها ولا نواها فكذلك المتكلم بالطلاق والعتاق والوقف واليمين والنذر مكرها لا يلزمه شيء من ذلك لعدم نيته وقصده وقد أتى باللفظ الصريح فعلم أن اللفظ إنما يوجب معناه لقصد المتكلم به والله تعالى رفع المؤاخذة عمن حدث نفسه بأمر بغيرتلفظ أو عمل كما دفعها عمن تلفظ باللفظ من غير قصد لمعناه ولا إرادة ولهذا لا يكفر من جرى على لسانه لفظ الكفر سبقا من غير قصد لفرح أو دهش وغير ذلك كما في حديث الفرح الإلهي بتوبة العبد وضرب مثل ذلك بمن فقد راحلته عليها طعامه وشرابه في الأرض المهلكة فأيس منها ثم وجدها فقال اللهم أنت عبدي وأنا ربك أخطأ من شدة الفرح ولم يؤاخذ بذلك. اهـ.
وقال الإمام الغزالي في كتاب التفرقة بين الإسلام والزندقة: والذي ينبغي الاحتراز عن التكفير ما وجد إليه سبيلا فان استباحة الدماء والأموال من المصلين إلى القبلة المصرحين بالتوحيد خطأ والخطأ في ترك ألف كافر في الحياة أهون من الخطأ في سفك دم مسلم.
قال: وقد وقع التكفير لطوائف من المسلمين يكفر بعضها بعضا، فالأشعري يكفر المعتزلي زاعما أنه كذب الرسول في رؤية الله تعالى وفي إثبات العلم والقدرة والصفات، وفي القول بخلق القرآن، والمعتزلي يكفر الأشعري زاعما أنه كذب الرسول في التوحيد فإن إثبات الصفات يستلزم تعدد القدماء.
قال والسبب في هذه الورطة الجهل بموقع التكذيب والتصديق، ووجهه أن كل من نزل قولا من أقوال الشرع على شيء من الدرجات العقلية التي لا تحقق نقصا فهو من التعبد وإنما الكذب أن ننفي جميع هذه المعاني ويزعم أن ما قاله لا معنى له وإنما هو كذب محض وذلك هو الكفر المحض؛ ولهذا لا يكفر المبتدع المتأول ما دام ملازما لقانون التأويل لقيام البرهان عنده على استحالة الظواهر وهذا كمن يسمع قوله صلى الله عليه وسلم يؤتى بالموت يوم القيامة في صورة كبش أملح فيذبح فان من قام عنده البرهان العقلي على أن الموت عرض أو عدم عرض وإن قلب العرض جسما مستحيل غير مقدور عليه، فينزل الخبر على أن أهل القيامة يشاهدون ذلك ويعتمدون أن الموت فيكون ذلك موجودا في حسهم لا في الخارج، ويكون سببا لحصول اليقين باليأس عن الموت. اهـ.
وقد حكى الروياني في البحر عن الإمام الشافعي- رضي الله تعالى عنه- قال: لا يكفر من أهل القبلة إلا واحدا وهو من نفى علم الله عن الأشياء قبل كونها فهو كافر. اهـ.
وقال الشيخ أبو محمد بن عبد السلام: قد رجع الأشعري- رحمه الله- عند موته عن تكفير أهل القبلة؛ لأن الجهل بالصفات ليس جهلا بالموصوفات، وقال اختلفنا في عبارات والمشار إليه واحد، وقد مثل ذلك بمن كتب إلى عبيده فأمرهم ونهاهم فاختلفوا في صفاته هل هو أبيض أو أسود أو أحمر أو أسمر، فلا يجوز أن يقال: إن اختلافهم في صفته اختلاف في كونه سيدهم المستحق لطاعتهم وعبادتهم، فكذلك اختلاف المسلمين في صفات الإله ليس اختلافا في كونه سبحانه وتعالى في جهة كونه خالقهم وسيدهم المستحق لطاعتهم. اهـ.
وقال الإمام أبو الحسن السبكي: ما دام الإنسان يعتقد شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فتكفيره صعب. اهـ.
وقال الغزالي: ذهبت طائفة إلى تكفير عوام المسلمين لعدم معرفتهم أصول العقائد بأدلتها، وهو بعيد عقلا ونقلا، وليس الإيمان عبارة عما اصطلح عليه النظار، بل هو نور يقذفه الله في القلب، فلا يمكن التعبير عنه، كما قال الله تعالى: {فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام} [الأنعام: 125] وقد حكم النبي صلى الله عليه وسلم أن من تكلم بلفظة التوحيد أجرى عليه أحكام المسلمين.
وثبت بهذا أن مأخذ التكفير من الشرع لا من العقل إذا الحكم بإباحة الدم والخلود في النار شرعي لا عقلي خلافا لما ظنه بعض الناس. اهـ.
وقال العلامة بدر الدين العينى في كتابه عمدة القارى ما نصه: والكفر المطلق هو الكفر بالله وما دون ذلك يقرب منه وتحقيق ذلك ما قاله الأزهري الكفر بالله أنواع: إنكار وجحود وعناد ونفاق، وهذه الأربعة من لقى الله تعالى بواحد منها لم يغفر له، فالأول أن يكفر بقلبه ولسانه ولا يعرف ما يذكر له من التوحيد كما قال الله تعالى: {إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم} [البقرة: 6] الآية أي الذين كفروا بالتوحيد وأنكروا معرفته والثاني أن يعرف بقلبه ولا يقر بلسانه وهذا ككفر إبليس وبلعام وأمية بن أبي الصلت والثالث أن يعرف بقلبه ويقر بلسانه ويأبى أن يقبل الإيمان بالتوحيد ككفر أبي طالب والرابع أن يقر بلسانه ويكفر بقلبه ككفر المنافقين قال الأزهري ويكون الكفر بمعنى البراءة كقوله تعالى حكاية عن الشيطان {إني كفرت بما أشركتمون من قبل} [إبراهيم: 22] أي تبرأت قال وأما الكفر الذي هو دون ما ذكرنا فالرجل يقر بالوحدانية والنبوة بلسانه ويعتقد ذلك بقلبه لكنه يرتكب الكبائر من القتل والسعي في الأرض بالفساد ومنازعة الأمر أهله وشق عصا المسلمين ونحو ذلك انتهى وقد أطلق الشارع الكفر على ما سوى الأربعة وهو كفران الحقوق والنعم كهذا الحديث ونحوه وهذا مراده من قوله: وكفر دون كفر. اهـ.
وقال صاحب التحرير والتنوير ما نصه: والكفر بضم الكاف مصدر سماعي لكفر الثلاثي القاصر وأصله جحد المنعم عليه نعمة المنعم اشتق من مادة الكفر بفتح الكاف وهو الحجب والتغطية لأن جاحد النعمة قد أخفى الاعتراف بها كما أن شاكرها أعلنها. وضده الشكر ولذلك صيغ له مصدر على وزان الشكر وقالوا أيضا كفران على وزن شكران ثم أطلق الكفر في القرآن على الإشراك بالله في العبادة بناء على أنه أشد صور كفر النعمة إذ الذي يترك عبادة من أنعم عليه في وقت من الأوقات قد كفر نعمته في تلك الساعة إذ توجه بالشكر لغير المنعم وترك المنعم حين عزمه على التوجه بالشكر ولأن عزم نفسه على مداومة ذلك استمرار في عقد القلب على كفر النعمة وإن لم يتفطن لذلك فكان أكثر إطلاق الكفر بصيغة المصدر في القرآن على الإشراك بالله ولم يرد الكفر بصيغة المصدر في القرآن لغير معنى الإشراك بالله. وقل ورود فعل الكفر أو وصف الكافر في القرآن لجحد رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وذلك حيث تكون قرينة على إرادة ذلك كقوله: {ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين} وقوله: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} يريد اليهود وأما إطلاقه في السنة وفي كلام أئمة المسلمين فهو الاعتقاد الذي يخرج معتقده عن الإسلام وما يدل على ذلك الاعتقاد من قول أو فعل دلالة لا تحتمل غير ذلك.
وقد ورد إطلاق الكفر في كلام الرسول عليه السلام وكلام بعض السلف على ارتكاب جريمة عظيمة في الإسلام إطلاقا على وجه التغليظ بالتشبيه المفيد لتشنيع ارتكاب ما هو من الأفعال المباحة عند أهل الكفر ولكن بعض فرق المسلمين يتشبثون بظاهر ذلك الإطلاق فيقضون بالكفر على مرتكب الكبائر ولا يلتفتون إلى ما يعارض ذلك في إطلاقات كلام الله ورسوله. وفرق المسلمين يختلفون في أن ارتكاب بعض الأعمال المنهي عنها يدخل في ماهية الكفر وفي أن إثبات بعض الصفات لله تعالى أو نفي بعض الصفات عنه تعالى داخل في ماهية الكفر على مذاهب شتى ومذهب أهل الحق من السلف والخلف أنه لا يكفر أحد من المسلمين بذنب أو ذنوب من الكبائر فقد ارتكبت الذنوب الكبائر في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء فلم يعاملوا المجرمين معاملة المرتدين عن الدين والقول بتكفير العصاة خطر على الدين لأنه يؤول إلى أنحلال جامعة الإسلام ويهون على المذنب الانسلاخ من الإسلام منشدا أنا الغريق فما خوفي من البلل.
ولا يكفر أحد بإثبات صفة لله لا تنافي كماله ولا نفي صفة عنه ليس في نفيها نقصان لجلاله فإن كثيرا من الفرق نفوا صفات ما قصدوا بنفيها إلا إجلالا لله تعالى وربما أفرطوا في ذلك كما نفى المعتزلة صفات المعاني وجواز رؤية الله تعالى وكثير من الفرق أثبتوا صفات ما قصدوا من إثباتها إلا احترام ظواهر كلامه تعالى كما أثبت بعض السلف اليد والإصبع مع جزمهم بأن الله لا يشبه الحوادث. اهـ.
وقال الشيخ الألبانى- رحمه الله- في هذا الشأن في كتابه فتنة التكفير ما نصه: فلابد لنا- والحالة هذه- من أن ندندن دائما وأبدا حول هذا الأصل الأصيل إذا أردنا أن نفهم عقيدتنا وأن نفهم عبادتنا وأن نفهم أخلاقنا وسلوكنا.
ولا محيد عن العودة إلى منهج سلفنا الصالح لفهم كل هذه القضايا الضرورية للمسلم حتى يتحقق فيه- صدقا- أنه من الفرقة الناجية.
ومن هنا ضلت طوائف قديمة وحديثة حين لم يتنبهوا إلى مدلول الآية السابقة وإلى مغزى حديث سنة الخلفاء الراشدين وكذا حديث افتراق الأمة فكان أمرا طبيعيا جدا أن ينحرفوا كما انحرف من سبقهم عن كتاب الله وسنة رسول صلى الله عليه وسلم ومنهج السلف الصالح.
ومن هؤلاء المنحرفين: الخوارج قدماء ومحدثين.
فإن أصل فتنة التكفير في هذا الزمان- بل منذ أزمان- هو آية يدندنون دائما حولها ألا وهي قوله تعالى: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} [المائدة: 44] فيأخذونها من غير فهوم عميقة ويوردونها بلا معرفة دقيقة.
ونحن نعلم أن هذه الآية الكريمة قد تكررت وجاءت خاتمتها بألفاظ ثلاثة وهي: {فأولئك هم الكافرون} {فأولئك هم الظالمون} [45- المائدة] {فأولئك هم الفاسقون} [47- المائدة].
فمن تمام جهل الذين يحتجون بهذه الآية باللفظ الأول منها فقط: {فأولئك هم الكافرون} أنهم لم يلموا على الأقل ببعض النصوص الشرعية- قرآنا أم سنة- التي جاء فيها ذكر لفظة الكفر فأخذوها- بغير نظر- على أنها تعني الخروج من الدين وأنه لا فرق بين هذا الذي وقع في الكفر وبين أولئك المشركين من اليهود والنصارى وأصحاب الملل الأخرى الخارجة عن ملة الإسلام.
بينما لفظة الكفر في لغة الكتاب والسنة لا تعني- دائما- هذا الذي يدندنون حوله ويسلطون هذا الفهم الخاطئ المغلوط عليه فشأن لفظة {الكافرون}- من حيث إنها لا تدل على معنى واحد- هو ذاته شأن اللفظين الآخرين: {الظالمون} و{الفاسقون} فكما أن من وصف أنه ظالم أو فاسق لا يلزم بالضرورة ارتداده عن دينه فكذلك من وصف بأنه كافر سواء بسواء.
وهذا التنوع في معنى اللفظ الواحد هو الذي تدل عليه اللغة ثم الشرع الذي جاء بلغة العرب- لغة القرآن الكريم.
فمن أجل ذلك كان الواجب على كل من يتصدى لإصدار الأحكام على المسلمين- سواء كانوا حكاما أم محكومين- أن يكون على علم واسع بالكتاب والسنة وعلى ضوء منهج السلف الصالح.
والكتاب والسنة لا يمكن فهمهما- وكذلك ما تفرع عنهما- إلا بطريق معرفة اللغة العربية وآدابها معرفة دقيقة.
فإن كان لدى طالب العلم نقص في معرفة اللغة العربية فإن مما يساعده في استدراك ذلك النقص الرجوع إلى فهم من قبله من الأئمة والعلماء وبخاصة أهل القرون الثلاثة المشهود لهم بالخيرية.
ولنرجع إلى الآية: ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون فما المراد بالكفر فيها؟ هل هو الخروج عن الملة؟ أو أنه غير ذلك؟
فأقول: لابد من الدقة في فهم هذه الآية فإنها قد تعني الكفر العملي وهو الخروج بالأعمال عن بعض أحكام الإسلام.
ويساعدنا في هذا الفهم حبر الأمة وترجمان القرآن عبدالله بن عباس- رضي الله عنهما- الذي أجمع المسلمون جميعا- إلا من كان من تلك الفرق الضالة- على أنه إمام فريد في التفسير فكأنه طرق سمعه يومئذ ما نسمعه اليوم تماما من أن هناك أناسا يفهمون هذه الآية فهما سطحيا من غير تفصيل فقال رضي الله عنه: ليس الكفر الذي تذهبون إليه وإنه ليس كفرا ينقل عن الملة وهو كفر دون كفر.
ولعله يعني بذلك الخوارج الذين خرجوا على أمير المؤمنين علي رضي الله عنه ثم كان من عواقب ذلك أنهم سفكوا دماء المؤمنين وفعلوا فيهم ما لم يفعلوا بالمشركين: فقال: ليس الأمر كما قالوا أو كما ظنوا وإنما هو كفر دون كفر.
هذا الجواب المختصر الواضح من ترجمان القرآن في تفسير هذه الآية هو الحكم الذي لا يمكن أن يفهم سواه من النصوص التي أشرت إليها قبل.
ثم إن كلمة الكفر ذكرت في كثير من النصوص القرآنية والحديثية ولا يمكن أن تحمل- فيها جميعا- على أنها تساوي الخروج من الملة.
من ذلك مثلا الحديث المعروف في الصحيحين عن عبدالله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سباب المسلم فسوق وقتاله كفر». فالكفر هنا هو المعصية التي هي الخروج عن الطاعة ولكن الرسول عليه الصلاة والسلام- وهو أفصح الناس بيانا- بالغ في الزجر قائلا: وقتاله كفر.
ومن ناحية أخرى هل يمكن لنا أن نفسر الفقرة الأولى من هذا الحديث- سباب المسلم فسوق- على معنى الفسق المذكور في اللفظ الثالث ضمن الآية السابقة: ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون؟
والجواب: أن هذا قد يكون فسقا مرادفا للكفر الذي هو بمعنى الخروج عن الملة وقد يكون الفسق مرادفا للكفر الذي لا يعني الخروج عن الملة وإنما يعني ما قاله ترجمان القرآن إنه كفر دون كفر.
وهذا الحديث يؤكد أن الكفر قد يكون بهذا المعنى وذلك لأن الله عز وجل قال: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله}. إذ قد ذكر ربنا عز وجل هنا الفرقة الباغية التي تقاتل الفرقة المحقة المؤمنة ومع ذلك فلم يحكم على الباغية بالكفر مع أن الحديث يقول: «وقتاله كفر».
إذا فقتاله كفر دون كفر كما قال ابن عباس في تفسير الآية السابقة تماما.
فقتال المسلم للمسلم بغي واعتداء وفسق وكفر ولكن هذا يعني أن الكفر قد يكون كفرا عمليا وقد يكون كفرا اعتقاديا.
من هنا جاء هذا التفصيل الدقيق الذي تولى بيانه وشرحه الإمام- بحق- شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وتولى ذلك من بعده تلميذه البار ابن قيم الجوزية إذ لهما الفضل في التنبيه والدندنة على تقسيم الكفر إلى ذلك التقسيم الذي رفع رايته ترجمان القرآن بتلك الكلمة الجامعة الموجزة فابن تيمية يرحمه الله وتلميذه وصاحبه ابن قيم الجوزية: يدندنان دائما حول ضرورة التفريق بين الكفر الاعتقادي والكفر العملي وإلا وقع المسلم من حيث لا يدري في فتنة الخروج عن جماعة المسلمين التي وقع فيها الخوارج قديما وبعض أذنابهم حديثا.
وخلاصة القول: إن قوله صلى الله عليه وسلم: «وقتاله كفر» لا يعني- مطلقا- الخروج عن الملة والأحاديث في هذا كثيرة جدا فهي- جميعا- حجة دامغة على أولئك الذين يقفون عند فهمهم القاصر للآية السابقة ويلتزمون تفسيرها بالكفر الاعتقادي.
فحسبنا الآن هذا الحديث لأنه دليل قاطع على أن قتال المسلم لأخيه المسلم هو كفر بمعنى الكفر العملي وليس الكفر الاعتقادي. انتهى كلامه رحمه الله.